عن أمير المؤمنين علي بن أبیطالب (عليه آلاف التحیّة والسّلام) قال:
“هَلْ تُحِسُّ بِهِ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلًا أَمْ هَلْ تَرَاهُ إِذَا تَوَفَّى أَحَداً بَلْ كَيْفَ يَتَوَفَّى الْجَنِينَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَيَلِجُ 1عَلَيْهِ مِنْ بَعْضِ جَوَارِحِهَا أَم الرُّوحُ أَجَابَتْهُ بِإِذْنِ رَبِّهَا أَمْ هُوَ سَاكِنٌ مَعَهُ فِي أَحْشَائِهَا، كَيْفَ يَصِفُ إِلَهَهُ مَنْ يَعْجَزُ عَنْ صِفَةِ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ”1.
شرح المفردات
1- يدخل
تمهيد
من أشدِّ الساعات على الإنسان هي تلك الساعة التي يحين فيها خروج روحه من هذه الدنيا، حيث يتمثَّل أمامه ملك الموت ليقبض هذه الروح، وكلَّما اشتدَّ تعلّق الإنسان بهذه الدنيا كلَّما اشتدَّت عليه ساعة الموت، وذلك لما يراه من عظيم فراقه لهذه الدنيا، فقد ورد في الرواية عن الإمام زين العابدين َعليه السلام: “أشدّ ساعات ابن آدم ثلاث ساعات: الساعة التي يعاين فيها ملك الموت، والساعة التي يقوم فيها من قبره، والساعة التي يقف فيها بين يدي الله تبارك وتعالى”2.
إنّ شدّة تعلّق الإنسان بهذه الدنيا تجعله يرى في فراقها فراقاً للراحة والهدوء إلى العذاب الأليم، وأمَّا المؤمن الذي لم يتعلَّق بهذه الدنيا فإنَّه سوف يراها خلاصاً وانتقالاً إلى عالم الراحة والسكينة، ففي الرواية عن الإمام زين العابدين َعليه السلام لما سُئِلَ عن الموت: “للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة، وفكّ قيود وأغلال ثقيلة، والاستبدال بأفخر الثياب وأطيبها روائح، وأوطئ المراكب، وآنس المنازل، وللكافر كخلع ثياب فاخرة، والنقل عن منازل أنيسة، والاستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها، وأوحش المنازل، وأعظم العذاب”3.
2- موقفان والخيار بيدك!
تتحدَّث الروايات الواردة عن أهل بيت النبوّة عليهم السلام عن أحد موقفين لا بدّ وأن يمرّ بهما الإنسان في لحظات معاينة ملك الموت، صورة حسنة جميلة وصورة قبيحة مؤلِمَة، واختيار أيّ الصورتين هو بيد هذا الإنسان، فهو الذي يحدِّد الصورة التي يرغب أن يتلقَّاه ملك الموت بها.
أ- الأوّل: موت المؤمن
قال تعالى: ?الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ?4.
تتحدَّث الآية عن صورة الملائكة التي يُوكَل إليها قبض روح الإنسان المؤمن، فتدخل الملائكة الموكَلة بقبض الروح وهي أعوان ملك الموت، فتبدأ على الإنسان بالسلام، وسلام الملائكة طمأنينة لهذا الإنسان، وتبشيراً له بالجنَّة.
فقد ورد في الروايات في وصف صورة ملك الموت، إذا جاء ليقبض روح المؤمن بأنّها صورة جميلة يتمنّاها الإنسان لما فيها من لقاء الله عزّ وجلّ. فعن النبيّّ صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّ ملك الموت ليقف من المؤمن عند موته موقفَ العبد الذليل من المولى، فيقوم وأصحابه لا يدنو(ن) منه حتّى يبدأه بالتسليم ويبشّره بالجنّة”5.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد نظر إلى ملك الموت عند رأس رجل من الأنصار: “يا ملك الموت! ارفق بصاحبي فإنّه مؤمن، فقال ملك الموت: طب نفساً وقرّ عيناً، واعلم أنّي بكلّ مؤمن رفيق، واعلم يا محمّد، أنّي لأقبض روح ابن آدم، فإذا صرخ صارخٌ من أهله، قمت في الدار ومعي روحه، فقلت: ما هذا الصارخ؟! والله ما ظلمناه، ولا سبقنا أجله، ولا استعجلنا قدره، وما لنا في قبضه من ذنب، وإن ترضوا بما صنع الله تؤجروا، وإن تحزنوا وتسخطوا تأثموا وتؤزروا”6.
نعم، من الطبيعيّ أن ينقبض الإنسان عندما يعلم بحلول أجله، ولكن من النعم الإلهيّة وجود ما يسلّيه بل يجعله في غاية الشوق للانتقال إلى ذلك العالم، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام لمَّا سُئل هل يُكره المؤمن على قبض روحه؟: “لا والله، إنّه إذا أتاه ملك الموت لقبض روحه جزع عند ذلك، فيقول له ملك الموت: يا وليّ الله لا تجزع، فوالّذي بعث محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم لأنا أبرّ بك وأشفَق عليك من والد رحيم لو حضرك، افتح عينك فانظر، قال: ويمثل له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين والأئمّة من ذريّتهم عليهم السلام، فيقال له: هذا رسول الله و… رفقاؤك… فما شيء أحبّ إليه من استلال روحه واللحوق بالمنادي”7.
إنَّها لحظة تنقلب إلى تمنٍّ بقبض هذه الروح، فهو ينتقل من الدنيا التي هي سجن لهذا المؤمن، إلى عام أرحب وأوسع، فيه لقاء الله، ومحبّة الله، ورضوان الله.
ب- الثاني: موت الكافر
قال تعالى: ?فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ?8.
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وصفه لموت الكافر: “وإن كان لأوليائنا معادياً، ولأعدائنا موالياً، ولأضدادنا بألقابنا ملقّباً”9، فإذا جاءه ملك الموت لنزع روحه، مثّل الله عزّ وجلً لذلك الفاجر سادته الذين اتخذهم أرباباً من دون الله، عليهم من أنواع العذاب ما يكاد نظره إليهم يهلكه، ولا يزال يصل إليه من حرّ عذابهم ما لا طاقة له به. فيقول له ملك الموت: يا أيّها الفاجر الكافر تركت أولياء الله إلى أعدائه، فاليوم لا يغنون عنك شيئاً، ولا تجد إلى مناص سبيلاً، فيرد عليه من العذاب ما لو قسم أدناه على أهل الدنيا لأهلكهم”10.
3- التولِّي والتبرِّي مفتاح الاختيار
إذا كان اختيار الإنسان هو المعيار في تحديد واحدة من هاتين الصورتين، فما هو طريق الاختيار؟ تتحدَّث العديد من الروايات أنَّ المعيار في ذلك هو من يتولّاه هذا الإنسان، فإن كان موالياً لأولياء الله، استقبله ملك الموت بصورة حسنة، وإن كان موالياً لأعداء الله، استقبله ملك الموت بصورة بشعة قبيحة. لكن، ما هو التولّي وما هو التبري؟
التولّي يعني الطاعة
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً?11.
إنّ طاعة أولياء الله عزّ وجلّ فرض فرضه الله سبحانه وتعالى لأنّه مفتاح وباب لطاعته، ولذا ورد عن أبي جعفر َعليه السلام قال: “بُنيَ الإسلام على خمسة أشياء:
على الصلاة والزكاة والحجّ والصوم والولاية، قال زرارة: فقلت: وأيّ شيء من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل، لأنّها مفتاحهنّ والوالي هو الدليل عليهنّ”12.
وعن أبي جعفر َعليه السلام قال: “ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن تبارك وتعالى الطاعة للإمام بعد معرفته، ثمّ قال: إنّ الله تبارك وتعالى يقول: ?مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا?”13.
ويتحدّث الإمام الصادق عليه السلام في رواية أخرى عن حقيقة الشيعة، وعن صفاتهم والتي تتمثل بطاعة الله عزّ وجلّ، فيقول عليه السلام: يا جابر أيكتفي من ينتحل التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت، فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون يا جابر إلّا بالتواضع، والتخشّع، والأمانة، وكثرة ذكر الله، والصوم، والصلاة، والبرّ بالوالدين، والتعاهد للجيران، من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكفّ الألسن عن الناس إلّا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء. قال جابر: فقلت: يا ابن رسول الله ما نعرف اليوم أحداً بهذه الصفة، فقال: يا جابر لا تذهبنّ بك المذاهب، حسب الرجل أن يقول: أحبّ عليّاً وأتولّاه ثمّ لا يكون مع ذلك فعّالاً؟ فلو قال: إنّي أحبّ رسول الله فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خير من عليّ َعليه السلام ثمّ لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنّته ما نفعه حبّه إيّاه شيئاً، فاتّقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحبّ العباد إلى الله عزّ وجلّ (وأكرمهم عليه) أتقاهم وأعملهم بطاعته، يا جابر والله ما يتقرّب إلى الله تبارك وتعالى إلّا بالطاعة، وما معنا براءة من النار، ولا على الله لأحد من حجّة، من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تُنال ولايتنا إلّا بالعمل والورع”14.
——————————————————————————–
الهوامش:
1- نهج البلاغة، الخطبة 113.
2- بحار الأنوار – العلّامة المجلسيّ – ج 6 ص 159.
3- بحار الأنوار – العلّامة المجلسيّ – ج 6 ص 155.
4- سورة النحل، الآية 32.
5- من لا يحضره الفقيه – الشيخ الصدوق – ج 1 ص 136.
6- بحار الأنوار – العلّامة المجلسيّ – ج 6 ص 170.
7- الكافي – الشيخ الكليني – ج 3 ص 128.
8- سورة محمّد، الآية 27.
9- أي كان يصف أعداءنا – فيواليهم ويقدسهم.
10- بحار الأنوار – العلّامة المجلسيّ – ج 6 ص 175.
11- سورة النساء، الآية 59.
12- الكافي – الشيخ الكليني – ج 2 ص 18.
13- الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 ص 186.
14- الكافي – الشيخ الكليني – ج 2 ص 75.
المصدر: www.tebyan.net